كتب هيثم خزعل
في إحدى المظاهرات الأميركية تضامنا مع غزة قال أحد المتظاهرين “أننا نريد الحرية لغزة لأننا نريد الحرية لأنفسنا”. هذه الجملة البسيطة تختصر الكثير علينا في بداية هذا المقال وهي تعيدنا إلى سؤال النظام السياسي كتعبير أو انعكاس عن إرادة “الناخبين” وهذا وهم خالص حيث يظهر النظام السياسي في أعتى الديموقراطيات الغربية كتعبير عن مراكز القوة في المجتمع أي عن مصلحة “رأس المال” ويصبح الناخب أسير للعبة السياسية التي فصلها رأس المال الذي يرسم بسيطرته على الإعلام وعلى كافة الدوائر المؤثرة في صناعة الخيارات السياسية وتقديمها للناخب باعتبارها “الخيارات المتاحة”. إذا، الديموقراطية تصبح مجرد آلية إجرائية غير ذات قيمة أو مجرد “وهم” يباع للناخب، جزء من سيرك “الترفيه” والعوالم الافتراضية التي تغرق فيها البشرية والتي تطفح بنظريات “اللايف كوتشينغ” و بالنماذج التي تعلمك اليوم كيف تكون ناجحا وكيف تجني الأموال لأن المسألة ببساطة تتعلق بذهنيتك الخاطئة وطباعك التي لا تؤهلك للنجاح.
أنت يجب أن تدخل السيرك بأن “تظهر بلايف على تيكتوك كمهرج” كي تجني نصيبك من المال في السيرك العالمي الكبير، أما في السياسة فأنت مدعو إلى كرنفال ومناظرات كل ٤ سنوات لتحديد خياراتك السياسية كوجبة من ضمن لائحة تقدم لك كما يحصل حين ترتاد مطعما ما، وهذا الكرنفال السياسي هو جزء من السيرك الكبير.
في تعليق له يقول المفكر علي القادري أن الناس بعد سقوط التجربة الإشتراكية باتت “فاقدة للأدوات الأيديولوجية اللازمة للتغيير الحقيقي” والتغيير هنا ليس أن تختار رئيسا في صندوق الاقتراع كما تختار أي سلعة من سوبر ماركت بل أن تمتلك القدرة على تغيير نمط توزيع الثروة في مجتمعك بما يؤثر على مستوى معيشتك وصحتك ومستقبل أولادك.
بالعودة إلى العالم العربي وحالة الخمول الصادمة قياسا بهول المجزرة الحاصلة في غزة على مرمى حجر من كتلة سكانية عربية تقدر ب٥٠٠ مليون عربي فإن قياس الأمور يأخذ أبعادا أشمل لأن القضية لا تتصل بالتضامن الإنساني كما هو الحال في الغرب وبقية دول العالم بقدر ما تتصل بالتضامن القومي والديني. إذا كان الحديث عن المصلحة القومية العربية ضرب من الهذيان، فالحديث عن المشاعر القومية والدينية والإنسانية يصبح مبررا ومشروعا.
لن نغرق في هذا المقال بالحديث عن تبعية النظام الرسمي العربي وبالعمل الأميركي منذ أكثر من ثلاثة عقود على تدمير الدول العربية وعلى التبعية الشاملة للأميركي على مستوى الدول العربية بل سوف نبحث في أسباب الخمول العام على مستوى “الناس،الجمهور، الرأي العام،…” أو سمه ما شئت ويمكننا أن نرصد هنا عدة عوامل تسهم في تفسير هذه الحالة العامة:
١- بعد حالة الركود السياسي التي عمت العالم العربي لعقود، أتى العام ٢٠١١ وهو “موسم السياسة” كما الحال اليوم في “موسم الرياض الترفيهي” ومواسم أخرى في دول الخليج وبقية الدول العربية. بعد سقوط الأنظمة انتشرت الأحزاب والجمعيات كالنار في الهشيم وكلها كانت تحمل نفس الأدوات والأجندة والخطاب الليبرالي الأجوف وتتحدث عن مطلقات “كالديموقراطية والعدالة والحرية” وهي مفاهيم مجردة لا يمكن أن تترجم في الواقع المعاش ولا يمكن أن تغيره قيد أنملة. في حديث سابق مع الدكتور حسن الضيقة في الغام ٢٠١١ كنا غارقين في التنظير للديموقراطية والانتخابات فابتسم وقال” أن الديموقراطية شغلة حلوة ولكن ماذا ستغير في واقع الجغرافيا العربية بدولها وناسها وقضاياها” فخيم الصمت علينا كأن على رؤوسنا الطير.
٢- بالتوازي مع طفرة الفطريات من حملة “الإنجيل الغربي النيوليبرالي” كان ثمة طفرة في ما عرف بحركات “الإسلام السياسي” السلفية والإخوانية والوسطية وهذه الحركات أيضا كانت حاملة لمطلقات دينية لا تمت للسياسة بالصلة. التنافس بين التيارين الليبرالي والإسلامي كان حول تقديم أوراق التبعية للغرب، والتيار الإسلامي كان أسوأ بما لا يقاس بفعل ممارسة هذه الحركات العدمية العنف على المجتمعات خدمة للأجندة الغربية في تحقيق أهداف جيوسياسية في المنطقة. وبعد حفلة التخريب التي حصلت فشلت هذه التيارات نظرا للتضارب الحاصل في معسكر الدول الموالية للولايات المتحدة حيث تم ترميم النظم السابقة بواجهات جديدة وإقصاء الإسلاميين عن المشهد.
الخطير في هذه التجربة أنها صدرت للناس نموذجا في غاية السوء عن “الإسلام السياسي” في منطقة كان “الجامع” فيها تاريخيا هو أداة الناس في الحشد بوج السلطان والتشكيك بشرعية حكمه وبناء شرعيات بديلة، أو أداة للتنظيم والفعل المجتمعي بعيدا عن سيطرة “السلطة السياسية”.
هذان السببان يعيداننا إلى فكرة الدكتور القادري بأن “الناس في العالم ومن ضمنهم العرب لا يمتلكون الأدوات الأيديولوجية اللازمة للتغيير”.
٣- بالتوازي مع سقوط الأوهام الليبرالية والإسلامية والضرر البنيوي الذي طال العالم العربي بعد العام ٢٠١١، برز بالتوازي مع محاولات الهندسة الأميركية الجديدة للمنطقة وفق إتفاق “أوسلو جماعي” والترويج لأجندة السلام والتعايش وقبول إسرا/ئيل، برز نموذج الترويج ل”دبي” و”الرياض” وما عبر عنه اختصارا ولي العهد السعودي بأن “الشرق الأوسط سيصبح أوروبا الجديدة”، حيث بدأت الدول الخليجية، التي أغرقت العالم العربي سابقا بالوعاظ والدعاة والانتحاريين، بإغراقه بمهرجانات الترفيه والفن وكرة القدم وبالتيكتوكرز والإنفلونسرز والمدربين. عشرات مليارات الدولارات تدفع لصناعة المسلسلات وتنظيم المهرجانات التي تقول للجمهور العربي أن زمن الحروب والصراعات انتهى وأن الزمن اليوم هو “زمن الترفيه” وزمن “الدبي بليونيرز”.
إذا هذ الكتلة المعدمة والمفقرة من العرب يتم اليوم التلاعب بها كما استطاعت ماكينة الرأسمالية الغالمية أن تتلاعب بثمانية مليار بشري يسكنون هذا الكوكب في سيركها الكبير للذي يقصيهم عن “السياسة”.
وسط هذا الخراب العميم، يبرز محور المقا/ومة، إيران بوزنها الحضاري والتاريخي في الإقليم، كحالة شاذة عن الحالة العامة العربية والإسلامية. إيران هذه التي باتت جزءا من الصراع الكوني على بنية النظام العالمي تقف مع من يمتشقون سلاحهم في غزة ولبنان والعراق واليمن وسوريا لتحارب اليوم عن ٥٠٠ مليون عربي وملياري مسلم في حرب تطال بالدرجة الأولى سبل معاشهم ومستقبل وجودهم في المنطقة.
يبقى أن نقول في الخاتمة أن حركة التاريخ اليوم متدفقة وسيالة وأن هذا المقال ليس لتعميم اليأس بل للقول أن ثمة ما يمكن أن ينشأ مستقبلا في المنطقة في ظل الصراع العالمي وتصدع مباني نظام الهيمنة الغربية وأنه وللمرة الأولى منذ قرن كامل سيكون للمقا/ومة الفلسطينية معسكر عالمي مناهض للغرب سيجد مستقبلا أن في انتصارها مصلحة له وهذا في مكان ما يعوض عن حالة الخذلان الكبرى الذي ترتكب المذبحة اليوم في ظلها.
اترك تعليقاً