بقلم أ. مهيب صدوق
لقد كان الشهيد وديع حداد قريبا من كبريات الأحداث الوطنية والقومية ، ففي ريعان شبابه وجد نفسه في “جمعية العروة الوثقى ” ، وفي ذروة المد القومي ، وجد نفسه في معسكر القوميين العرب وفي قلب محاولة هزيمة الهزيمة ، مع تمرد أجيال من الشباب وجد نفسه من المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وفي غمرة تفانيه اللامتناهي وشجاعته الباسلة وجد نفسه بين أروقة مشافي المانيا الشرقية بعد تسميمه من قبل الموساد الاسرائيلي عام ١٩٧٨.
ليس هدفي من هذه السطور أن أدبج مزايا جديدة عن شخص وديع حداد ، أو أن أكتب به تعريفا كعسكري ، أو كقائد ، أو كزعيم ، أو كإنسان ، ذلك أنني أحد الذين يؤمنون عن قناعة ويقين ، أن الشهيد وديع حداد سوف يكون محتاجا على امتداد قرون قادمة ، إلى من يصوغ قصائد مديح فيه ، أو إلى من يقدم كشف حساب بانجازاته العظيمة .
لقد جعل الشهيد وديع حداد من دوره وفكره ونضاله ، قنطرة تحول تاريخية في حياة الكفاح المسلح الفلسطيني ، وبكل مستوى ، وبكل بعد ، وسوف تظل هذه القنطرة راسخة في موقعها ، لأنها جزء ثابت وحاسم في مجرى النهر الوطني الفلسطيني والقومي ، ومهما تكن الجسور التالية عليها تخفي تحتها جداول ماء ، أو عواصف رمال .
ومن المؤكد أن الشهيد وديع حداد لم يؤلف الكفاح المسلح ،فالقومية والارادة الفلسطينية وعبقرية الكفاح المسلح الفلسطيني والإسلامي والعربي كانت جميعها قبل وديع حداد وبقيت وستبقى بعده وبعدنا جميعا ، ولكن القيمة الحقيقية لحداد في ذلك كله وغيره ، أنه أبصر بعمق ، واكتشف ببصيرة نافذة ، وحاول أن يحول قوانين الطبيعة الكامنة ، إلى ضرورة فاعلة في مرحلة مواتية من التاريخ ، ثم إن الشهيد وديع حداد لم يؤلف معادلات القوة في بنيان الكفاح المسلح الفلسطيني أو العربي ، وإنما استطاع أن يكتشفها ويترجمها ، إلى حقائق بسيطة تكاد تنتسب إلى البديهيات ..
وحتى بالنسبة لشخص وديع حداد نفسه ، فقد كان في تكوينه من حكمة هذا التاريخ نذر ليس باليسير ، وطنية بغير عنصرية ، وقومية بدون تعال ، وانتماء إلى القاعدة المنتجة العريضة ، التي كانت ساعدها مشاعل الحضارة دوما .
لقد ولدت النكبة داخل الشهيد وديع شعوراً عالياً بالمسؤولية تجاه شعبه وقضيته التي ازدادت مأساوية على ضوء النكبة، الأمر الذي عكس نفسه على اهتماماته وتوجهاته المستقبلية، ودفعت به باتجاه الانخراط الفعلي في الفعل الوطني الكفاحي للشعب الفلسطيني.
امن وديع حداد أن على المقاومة الفلسطينية تشتيت التركيز الاسرائيلي من خلال توسيع رقعة المعركة والتحالف مع قوى مستعدة للقتال ضد الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الأمريكية خارج حدود فلسطين التاريخية فقط وانما في منطقة الشرق الأوسط والعالم وذلك يتطلب التحالف مع منظمات دولية عالمية .
تبلورت استراتيجيته في العمل على تنظيم الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة يثور ضد الاحتلال الصهيوني ،وترابط عضوي بين حركات التحرر الوطني.
عندما اختار وديع حداد العمل السري لاعتقاده أنه الأنجع في ايذاء العدو .فالزم نفسه ورفاقه القواعد الصارمة لهذا العمل .لا احتفالات ولا استعراضات ولا صور ولا عناوين معروفة أو دائمة ،المشارك في عملية يعرف دوره فيها ولا يعرف الشيء الذي يهدد العمل والتعامل مع أي فصيل احر ضمن حدود واضحة ..الرجل الذي اسقط من حساباته لعبة الصفوف الأمامية وبريق المواكب والصالونات ومتعة الابتسام أمام العدسات ..لم يدل بحديث حافي ولم يكتب مذكرات وحين غاب أصطحب معه غابة أسراره.
كانت ذاكرته تختزن كل شئ ، الوقائع والأحداث والألوان والأشخاص ومئات التفاصيل الصغيرة ، ولهذا كان دقيقا جدا في عمله .
وكثيرا ما قيل عنه أنه يغلب الجانب المعلوماتي الممارساتي على الجانب الفكري النظري على الرغم ان حداد يؤكد دائما على الوعي السياسي والمنطلقات الفكرية الي تحكم التطبيق.
ان ذكرى استشهاد وديع حداد مناسبة لاستذكار واستنتاج الخط الكفاحي والفكر الكفاحي الذي كان يتبناه والذي نقل فيه الفكرة من حيز التنظير إلى حيز التطبيق برأيه بقضية أحقية الشعب الفلسطيني بفلسطين التاريخية واضحة وهذا ما كان يقوله:
“انا بلدي اسمها صفد… لا أقبل إن عُرضت علينا كل فلسطين باستثناء صفد، وأرفضها إذا عُرضت مع صفد واستُثني منها بيتي، وأرفضها إذا عُرضت مع صفد وبيتي واستُثني منها شبر واحد. هذه هي مواقفنا وهذا هو مشروعنا للتحرير. خطنا هو حرب الشعب الطويلة الأمد وسياسة الاستنزاف التي ستؤدي إلى إصابة الجسم الإسرائيلي القوي بفقر الدم والانهيار»
كان يحكم نفسه بمجموهة متسقة ومتماسكة ، من قواعد الأخلاق والمثل العليا ، وأنه لم يخرج عنها يوما ، كان سياسيا محترفا ، ولكن السياسة بالنسبة له لم تكن لعبة خارج نسق القيم والأخلاق ، فلم يتلّون، ولم يظهر بوجهين ، وإنما كان واضحا صريحا مباشرا ، يظهر ما يبطن ، ويقول ما يؤمن ، ويدافع عما يعتقد حقا أنه الصواب ، صادقا مع نفسه ومع من حوله ، ومع الناس جميعا .
ونحن نستذكر ذكرى رحيله كان لزاما علينا إعادة ترسيخ نهجه وأفكاره الراهنة أكثر من أي وقت .
ما أحوجنا الى نهجه اليوم في ملاحقة العدو في كل مكان وتشتيت تركيزه فها هو وديع حداد ارتبط اسمه في خطف الطائرات وتنفيذ العمليات الخاصة وتصفية وملاحقة العملاء وضرب وقطع الشرايين التي تمد وتغذي الكيان الصهيوني سياسياً واقتصادياً أمنياً وعسكرياً, وعمل على تجنيد ما بوسعه من حلفاء وثوريين أمميين من إيران لنيكاراكوا ومن الجيش الاحمر الياباني إلى ألمان وإيطاليين وفرنسيين وكافة الجنسيات العربية (مثال عملية مطار اللد وتفجير الطائرات في مطار عمان ) بهدف إيصال رسالة فحواها أن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية تحرر وطني وإنساني , قضية عادلة تحتاج لتجنيد وطاقات شرفاء وأحرار العالم.
ارتبط اسم وديع حداد بعشرات العمليات فكان الرجل الذي هز العالم مراراً وحبس الأنفاس في أكثر من مكان وزمان حريص في عملياته الخارجية بعدم استهداف المدنيين، بل التركيز على استهداف مصادر دعم ومساندة العدو الصهيوني، وظل حريصاً على نظافة كف المناضلين وعدم اقدامهم على أي ضرر بحق المدنيين.
من المؤكد أن الشهيد وديع حداد اغتيل ، وهو في قلب ساحة الشرف ، مخلفا وراءه مجدا عظيما لشعبه وأمته ، وللإنسانية جمعاء ، رغم أن جسده وجسد وطنه ، كان مثخنا بالجراح .
مدون من فلسطين المحتلة
اترك تعليقاً